النوم ما هيّته.. وأثره الجسديّ والنفسيّ
"ما هيّة النوم"
عرف الأطباء والعلماء النوم على أنه ظاهرة فسيولوجية طبيعية ضرورية للكائنات الحية، وأنه حالة غير إرادية تخضع لها جميع الكائنات الحية بما في ذلك النباتات. حيث تبين أن البعض من أنواع النباتات تَصْفَرّ أوراقها وتذبل -وقد تموت- إذا بقيت تحت تأثير الضوء المباشر لفترات طويلة. تحول دون حصولها على النوم الذي لا بد منه كضرورة من ضروريات بقائها.
وهذا ما يؤكد المقولة "بأن للنوم سلطة لا يمكن مقاومتها" فإذا ما تغلغل في أعصاب العين، انخفض نشاط الدماغ الواعي في الإنسان والحيوان، وانخفض معها تأثير المنبهات الخارجية.
لعلماء الإسلام الفضل الأول في تفسير ظاهرة النوم
يُعَدّ القاضي عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي المعروف "بالبيضاوي" نسبة إلى بلدة "البيضاء" الواقعة بالقرب من شيراز بفارس. التي ولد بها أول من فسر ظاهرة النوم تفسيراً علمياً وافق إلى حد بعيد نتائج الاختبارات التي أجراها العلماء حديثاً للكشف عن ماهية النوم وأسباب حدوثه، ومن تلك الأبحاث والاختبارات التي أجراها العالم "بيرون" الذي استخلص من "دم" و"سائل" الدماغ الشوكي مواد كيماوية أطلق عليها "غاما أمينو هيدروكسي بوتيريك أسيد" ثم اشتهرت باسم "جابا" Gaba.
وتبين من خلال تلك الأبحاث أن هذه المواد تزداد في الدم وفي السائل الدماغي الشوكي بازدياد حالة الحرمان من النوم..
وهي ذات المواد التي أشار إليها "العالم البيضاوي" وسماها المواد المتعبة، أو المسببة للتعب، وأشار إلى وجودها وتراكمها حذاء التشكلات الشبكية بعد التعرض للإجهاد الفكري أو العضلي للإنسان، أو حين ازدياد ساعات الحرمان من النوم، وكان ذلك في الربع الأخير من القرن السابع الهجري.
أثر النوم على أعضاء الجسد
يؤثر النوم تأثيراً مباشراً على عضلات الرأس والرقبة، كما تتأثر بشكل أبلغ وأعظم عضلات "الـنّقرة" وعضلات حدقة العين، فتضيق كما تتثاقل عضلات الأجفان. وتضعف قدرتها على الحركة، إلى أن ينسدل تماماً أثناء النوم، وترتخي عضلات العين الخارجية ارتخاء يسبب انحرافاً ملحوظاً في العينين، ويخف نشاط الجهاز العصبي، لكنه لا يتلاشى تماماً خاصة في العمليات العقلية التي تتعلق بقشرة المخ، فيما تبقى فاعلة إلى حد ما العمليات العقلية المتعلقة بالشعور مثل: الذكريات، أو الانطباعات الحسية التي تظهر على شكل أحلام.
وللنوم تأثير واضح على الجهاز التنفسي إذ تنخفض أثناءه عدد حركات التنفس، لكنها تزداد عمقاً، ويزداد نشاط المعدة أثناء النوم عند شريحة واسعة من الناس، وقد تبين لدى الأطباء أن النوم يُقلل من ضغط الدم ومن نسبة السكر في الدم.
"الأثر النفسي للنوم"
مما لا شك فيه أن النوم يترك أثراً نفسياً حسناً على الإنسان والحيوان وربما النبات –لم أطلع في الواقع على تأثير النوم على النبات- كما يساهم النوم إلى حد بعيد في التقليل من الآثار النفسية السيئة على النفس البشرية، وما تعانيه من اضطرابات ناتجة عن الفجائع أو المصائب التي قد تحيط بالإنسان عبر مشوار حياته.
وعلى النقيض من ذلك، فإن الحرمان من النوم يتسبب في إحداث الضعف العام لعضلات الجسد، وتعكر في مزاج الإنسان، وضعف في تركيزه الذهني، يزداد بازدياد ساعات الحرمان من النوم، ويسبب ضيقاً في الصدر، وظهور أعراض الاضطرابات النفسية، والانفعال غير المحمود، وقد يحول دون إتمام أي عمل متقن..
أنواع النوم
للنوم أنواع عديدة، منها: النوم الطبيعي، والنوم الصناعي الناتج عن تناول العقاقير الطبية المنومة، والنوم المرضي الناتج عن ذبابة "تسي تسي" التي يكثر وجودها وتكاثرها في أفريقيا، وبلغ عدد المصابين بمرضها "مرض النوم" ما يزيد عن نصف مليون إنسان، وتتم الإصابة بهذا المرض عن طريق اللدغ الذي تحدثه تلك الذبابة، حيث ينتقل الطفيل المسبب للمرض إلى الشخص السليم عن طريق الدم، ثم إلى الغدد الليمفاوية حيث يتكاثر الطفيل هناك، ويمتد زحفه حتى يصل إلى الجهاز العصبي، فيعمل على اختلال توازنه وعمله.
أما النوم الطبيعي فيتم على ثلاث مراحل:
1) المرحلة الأولى: نوم التهويم Hypnague ويكون بتزايد النعاس التدريجي، وتثاقل الأجفان، فيغفو الإنسان قليلاً، فهو نوم خفيف جداً، تتخلله لحظات صحو ويقظة، تتناسب وحركة التأثيرات الخارجية.
2) لمرحلة الثانية: النوم العميق: Deep Sleep ويلي هذا النوم نوم التهويم –في الغالب- أو عند ذهاب الشخص إلى السرير تحديداً، وقد يغادر نوم التهويم الإنسان عند حدوث أي مؤثر خارجي، فيعود الإنسان إلى يقظته التامة.
سمي "النوم العميق" بهذا الاسم لاسترخاء عضلات الجسم بعامة إلى أقصى درجات الاسترخاء، ولانخفاض سرعة الموجات الكهربائية التي ترسم نشاط المخ من حوالي (13) موجة في الثانية إلى ما بين (1-4) موجات في الثانية، وتدوم فترة النوم العميق من ستين دقيقة إلى تسعين دقيقة فقط، وتنخفض فيه سرعة نبضات القلب إلى أدنى سرعة لها، كما تقل حركات التنفس وضغط الدم بعض الشيء. وتتلاشى تماماً تأثيرات المنبهات الخارجية. كما يتوقف إلى حد ما نشاط الدماغ الواعي، بحيث أنّ الأحلام التي يراها الإنسان في هذا النوم، يصعب بل يستحيل عليه تذكرها عند يقظته وصحوه..
3) المرحلة الثالثة: مرحلة النوم الخفيف، ويسمى أيضاً مرحلة "نوم حركة العين السريعة" Rapid eye movement sleepوقد ذكر الدكتور سعيد حافظ يعقوب في مقاله المنشور في مجلة الفيصل العدد 27 لسنة 1979م أن "هذه المرحلة تتكرر في الليلة الواحدة حوالي (5) مرات تفصل بين المرحلة والمرحلة تقلبات النائم ذات اليمين وذات الشمال، فإن زادت التقلبات عن ذلك شعر النائم بالتعب واشتكى من قلة النوم".
وفي هذه المرحلة تحديداً تكثر الأحلام التي يستطيع النائم أن يتذكرها جيداً بعد يقظته، وذلك لأن النوم يكون خفيفاً، وتكثر فيه الحركات اللاشعورية التي تفرضها وتقتضيها حاجة جسده للراحة، أو يذعن فيها "لا إرادياً" لتحقيق راحةٍ لعضو أصابه التعب من جراء هذا الوضع. فتكون الاستجابة لا إرادية لتغيير الوضع.
وبعكس مرحلة النوم الثقيل أو العميق فإن سرعة القلب في مرحلة النوم الخفيف تزداد، كما تزداد حركات التنفس، ويزداد ضغط الدم، كما تزداد حركات العيون، فتكون سريعة خاطفة، وقد تبين أن نشاط المخ يزداد، وقدر الدكتور سعيد حافظ يعقوب في مقاله الآنف الذكر أن "سرعة الموجات الكهربائية التي يرسمها جهاز تخطيط الدماغ ترتفع إلى حوالي (15) موجة في الثانية".
اضطرابات النوم
تختلف مسببات الاضطراب في النوم من شخص لآخر، فقد يضطرب نوم شخص معين بتغير المكان، أو السرير أو الغرفة أو الوسادة، وقد يحدث اضطراب النوم بسبب الإحساس بالفشل أو الظلم أو القهر أو التعب.. أو الحزن أو الذنب، أو بسبب تقديم موعد النوم أو تأخيره.
وقد ينتج أيضاً عن زيادةٍ في ساعات النوم النهاري، أو تناول المنبهات كالشاي والقهوة، وقد ينتج عن أمراض جسدية أو نفسية دائمة أو مؤقتة، أو بسبب تناول بعض العقاقير الطبية التي تحدث تنبهاً في الجهاز العصبي، فيزداد نشاطه في العمليات العقلية والذهنية الناتجة عن الاضطرابات الانفعالية كالإحساس بالخوف، فينتج عنه الأرق الذي ينتج عن أي اختلال في المؤثرات الخارجية المحيطة بالنائم، والتي سبق ذكرها.
المنومات Narcotics
تعتبر المنومات أو المسكنات Sedatives بكافة أشكالها وألوانها من المؤثرات في الجملة العصبية، وكذلك المنبهات Analeptics، حيث تشترك جميعاً في التأثير المباشر على الجملة العصبية المركزية، إما لإحداث نوم هادئ ومريح للإنسان أو لإحداث نشاط حيوي في العضلات عن طريق تنبيه الجملة العصبية المركزية.. أو لمعالجة الاضطرابات النفسية أو النفسية الجسدية للمصاب من أجل توفير النوم الهادئ والمريح له من ناحية، والحيلولة دون تفاقم وضعه النفسي وإصابته بأمراض نفسية أكثر خطورة من ناحية أخرى.. أو للحيلولة دون تطور المرض من ناحية ثالثة.. ومهما يكن من أمر تلك المسكنات أو المنومات، أو المهدئات فإن تناولها ينبغي ألاّ يكون بغير وصفة طبية لما قد تحدثه من تأثيرات جانبية غاية في الخطورة.
طب الأعشاب وتأثيره على الأرق
برع الأطباء العرب منذ القدم في استعمال النباتات كعلاج فاعل للتخلص من الأرق، وقد تعددت مؤلفاتهم في ذلك وفي غيره من الأمراض. وقد تبين لدى علماء الغرب وأطبائهم نجاعة هذه النباتات في العلاج، فاستخلصوا منها الكثير الكثير من المواد التي تحولت إلى أقراص أو كبسولات أو حقن، وعدوها من المكتشفات العلمية لهم… منكرين في ذلك فضل العلماء العرب من أمثال الرازي وابن سينا، وعز الدين السويدي الذي ألف "التذكرة الهادية والذخيرة الكافية في الطب" وغيره من الأطباء والعلماء..
فقد ذكر السويدي في كتابه المذكور الكثير من الحقائق العلمية المستندة إلى الأدلة الثابتة، والموثقة بتحاليل وتجارب ميدانية أثبتت جدارتها وجدواها في العلاج من الأرق، وحصول النوم الهادئ.. واعتبر "الخشخاش" أبا النوم.. فذكر أن بزر الخشخاش إذا رُصّ مع قشره وغُسِل به وجه المريض نومه، وذكر أيضاً أن أكل الصبر أو الكرنب، أو شم الزعفران، أو زهر العصفر، يجلب النوم.. وكذلك أكل اللوز الحلو ينوم لأنه يزيد في جوهر الدماغ.. وقد ثبت هذا علمياً بعد ثمانية قرون.. أما كتاب "شمس العرب تسطع في الغرب" لمؤلفته الدكتورة زنغريد هونكة، فقد أشارت فيه مؤلفته إلى العديد من فضائل العرب في علم الطب على علماء الغرب.. وذكرت "إن فن استعمال الإسفنجة المخدرة فن عربي لم يُعرف عند أحد قبلهم.. وقد كان الأطباء العرب يغمسون هذه الإسفنجة في مزيج من الحشيش والأفيون والزذان وست الحسن.. ثم تُجفف في الشمس، وتُحفظ لحين الحاجة، أما عند الاستعمال فإنها تُرطّب، وتوضع على أنف المريض حيث تمتص أنسجته المخاطية تلك المواد المخدرة، فيركن المريض بعد ذلك إلى نوم عميق يمكّن الأطباء من إجراء الجراحة اللازمة له، ويخفف عن المريض أوجاعها..
وهذا يشير إلى أن العرب كانوا أول من استخدم عقاقير التنويم الصناعي على أحسن وجه، وكانوا الرواد الأوائل في اكتشاف مواده واستعمالها.. ولأطبائهم يعود الفضل الأعظم في تطور الطب الحديث.
أحمد أبو شاور
موقع جميل جدااااااااااااااااااا